سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم.
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي: موكل على أرزاقهم وأمورهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]، وقال {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]


{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو.
كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم، فأنزل الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعهم فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية، وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي مُعِيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البَخْتَري وبعثوا رجلا منهم يقال له: المطلب، قالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندَعْه وإلهه. فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تريدون؟». قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، ولندَعْك وإلهك. قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج؟» قال أبو جهل: وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هي؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله». فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها. قال: «يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها». إرَادَةَ أن يُؤيسَهم، فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
ومن هذا القبيل- وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها- ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سب والديه». قالوا يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه». أو كما قال، عليه السلام.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} أي: معادهم ومصيرهم، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: يجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.


{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
يقول تعالى إخبارًا عن المشركين: إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي: حلفوا أيمانًا مؤكدة {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} أي: معجزة وخارق، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي: ليصدقنها، {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتًا وكفرًا وعنادًا، لا على سبيل الهدى والاسترشاد: إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، إن شاء أجابكم، وإن شاء ترككم، كما قال، قال ابن جرير:
حدثنا هَنَّاد حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي شيء تحبون أن آتيكم به؟». قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. فقال لهم: «فإن فعلت تصدقوني؟». قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال له: لك ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل يتوب تائبهم». فأنزل الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} إلى قوله تعالى {يَجْهَلُونَ}
وهذا مرسل وله شواهد من وجوه أخر.
وقال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قيل: المخاطب ب {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} المشركون، وإليه ذهب مجاهد كأنه يقول لهم: وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها. وعلى هذا فالقراءة: {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر {إنها} على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها، وقراءة بعضهم: {أنها إذا جاءت لا تؤمنون} بالتاء المثناة من فوق.
وقيل: المخاطب بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} المؤمنون، أي: وما يدريكم أيها المؤمنون، وعلى هذا فيجوز في {أَنَّهَا} الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم. وعلى هذا فتكون {لا} في قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} صلة كما في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقوله {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]. أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك وحرام أنهم يرجعون. وتقديره في هذه الآية: وما يدريكم- أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصا على إيمانهم- أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون.
وقال بعضهم: {أنها} بمعنى لعلها.
قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. قال: وقد ذكر عن العرب سماعا: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا بمعنى: لعلك تشتري.
قال: وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يُدْريك أنّ مَنيَّتي *** إلى سَاعَةٍ في اليوم أو في ضُحَى الغَد
وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه شواهد من أشعار العرب والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر.
وقال مجاهد: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 56- 58] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وقال {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وقوله: {وَنَذَرُهُمْ} أي: نتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} قال ابن عباس والسُّدِّي: في كفرهم.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: في ضلالهم.
{يَعْمَهُونَ} قال الأعمش: يلعبون.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والربيع، وأبو مالك، وغيره: في كفرهم يترددون.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14